18/10/2023 - 12:36

مقبرةٌ لأحلام الولد البسيطة | شعر

مقبرةٌ لأحلام الولد البسيطة | شعر

طفل في رفح بين أنقاض المنازل المقصوفة في حرب الإبادة الإسرائيليّة على قطاع غزّة | محمّد عبد، Getty.

 

نعطي الموت كلّ الاحتمالات

 

على الشاشة

نشاهد الموت وننتظر

يحلّق بعيدًا أو قريبًا

بصاروخٍ، بقذيفةٍ، بتصريحٍ

جبان

 

على الشاشة أيضًا

عالمٌ طويلٌ كبير

تصريحاتٌ ثرثارةٌ

كلماتٌ غريبةٌ

أَتَوْا بها مِنَ القاموس وَنَسَوْا

أنّ أبلغها صاروخٌ

يُميت

 

نسمع الصوت

تلمع السماء

تهتزّ النافذة

تُطْرَقُ الأبواب

 

نهدأ

لأنّ الموت

لم يَكُنْ ضيفنا هذه المرّة

 

لعلّه

اختار بيتًا آخرَ

لعلّ طفلةً أخرى

كانت كريمةً بما يكفي لتحضنه

لعلّه أُعْجِبَ بربطة شعرها الصغيرة

الّتي أسعدتها قبل أن تنام

ضحكت لأمّها، وقالت: الآن، سأنام

وأجري في الحلم بربطة شعر القطّة

طويلًا، خلف العصافير

 

نتأّمل موتنا

وهو يختار بعنايةٍ أجملنا،

ويلتقط مِنْ بين الغافين

أكثرهم وداعةً

 

نضحك لموتنا... تارةً

ونخاف تارةً

 

سنعطيه كلّ الاحتمالات

ليأخذ أفضلها

ويترك لنا أطفالنا

 

لينسى

كم مرّةً دعتِ الأمّهات

في ذروة غضبهنّ على الصغار

أثناء جريهم الطويل

في المنزل

 

هُنَّ

لا يُرِدْنَ

سوى نظرةٍ أخيرةٍ لهم وهم يلعبون

ولا يُرِدْنَ معها سوى صالة المنزل الشرحة

لا حجارته المهدّمة

ولا وجوههم

المقطّعة

 

 

 

مقبرةٌ لأحلام الولد البسيطة

 

ولدٌ

تعوّد أن يجري ويلعب في الحارة

أمام عتبات البيوت

وفي الأزقّة الصغيرة

داخل مخيّمه الكبير

بحجم البلاد

 

الجري واحدٌ

لكنّ أهدافه عجيبةٌ

كان يجري خلف الكرة

بات يجري هربًا مِنْ شظايا الصاروخ

ومِنْ قلق أمّه كلّما سمعتْ

انفجارًا قريبًا

 

ولدٌ

ترك اللعب

وراح يجري في الجنازات

ونحو أماكن القصف الكثيرة

وفي لملمة ألعابٍ مِنْ فوق ركام

البيوت

 

ولدٌ

لم تعطيه الحياة فرصةً لفرحٍ أخير

أو فرصةً ليختار:

اللعب مع الأولاد الّذين يحبّون كرة القدم

أو الّذين يحبّون رمي البنانير

 

ولدٌ

أدرك أنّ الحياة غير عادلةٍ

لم تسمح له أن يختار:

بين النزوح والنوم على حافّة درجٍ في المستشفى

وبين تقبيل والده الشهيد

فاختارت هي، الثانية

 

ولدٌ

لَمْ يَجْرِ بما يكفي ليتعب في لعب الغمّيضة

لكنّ أصدقاءه جَرَوْا كثيرًا خلف كفنه الصغير

وفي البحث داخل المقبرة عن مساحةٍ

تتّسع لأحلامه الرقيقة

 

 

 

تأمّل قليلًا أيّها الموت

 

تأمّلنا قليلًا أيّها الموت

تأمّل ولو للحظةٍ حالنا

 

تأمّل عيوننا

علّها كانت زرقاء أو خضراء

أو فيها بعضًا

من لونٍ آخر

 

تأمّل شعر أطفالنا مِنْ تحت الركام

لعلّ خلف بياض الصواريخ المغمّس بها

لمسةً مِنْ لونٍ أصفر

أو لعلّها ناعمةً بما يكفي

كي ترمّم خشونة المخيّمات

 

تأمّل قليلًا

أجساد نسائنا وفتياتنا

ربّما كانت قياساتها عصريّةً بعض الشيء

وربّما كان شعرهنّ

مسرحًا قبل الفاجعة

أو كانت وجوههنّ

قبل لطخة الدم

ممتلئةً بالزينة

 

تأمّل أيّها الموت

تفحّص قمصاننا

لعلّك بين الشظايا وجدتَ منها

شيئًا اشتريناه من ماركاتٍ عالميّة

 

تمهّل

قبل أن تنقضّ لاختيارنا فرائسك

ربّما كنّا غربيّين بما يكفي كي تذهب بعيدًا

وتتركنا نكمل شؤون الحياة

ولو وقتًا قليلًا

 


 

المقداد جميل مقداد

 

 

كاتب وباحث من قطاع غزّة. يكتب النثر والشعر. له العديد من الدراسات والأبحاث في السياسة والعلاقات الدوليّة، وينشط في المجتمع المدنيّ والإعلام الفلسطينيّ.

 

 

 

التعليقات